معارف إِلٰهيَّة : (20) قضايا و تنبيهات / القضيَّة و التَّنْبِيه العشرون :
19/04/2024
القضيَّة و التَّنْبِيه العشرون: / بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / الحُجَج والمُحْكَمَات على مراتب طوليَّة / إِنَّ لِحُجِّيَّة الخبر مراتب طوليَّة من عدَّة جهات ، أَهمُّها ثلاثة : الأُوْلَىٰ : حُجِّيَّة المتن. الثَّانية : صحَّة وحُجِّيَّة الكتاب. الثَّالثة : حُجِّيَّة الطَّريق والسَّند. ثُمَّ إِنَّ أَعظم مراتب الحُجَج هي : (المُحْكَمَات)(1) ، وهي على مراتب طوليَّة أَيضاً ، أَعلاها ورأس هرمها : أُمُّهات المُحْكَمَات ، ومعناها : المركز والمُحور والمُهيمن. وهذا ما تشير إِليه بيانات الوحي ، منها : بيان قوله تعالىٰ : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيْلِهِ (2). والإِحْكَام المأخوذ في بيان هذه الآية الكريمة وإِنْ كان قد يُفسِّره البعض بإِحْكَام الدلالة ، لكنَّ الحقّ : أَنَّ عظمة إِحْكَام المُحْكَم وعمدته لا تكمن في الدلالة ، وإِنَّما ـ تكمن ـ في جهة المتن والمضمون الحاوي على معلومات ومعادلات علميَّة مُحيطة ومُهيمنة على ما تحتها. نظيره : العلوم البشريَّة ـ كعلم : الرياضيَّات ، والهندسة ، والفيزياء ، والكيمياء ، والأَحْيَاء ـ ؛ فإِنَّ فيها معلومات وقواعد ومعادلات علميَّة فوقيَّة، مُحيطة ومُهيمنة على بقيَّة مسائل ومباحث علومها المختصَّة بها ، وتتفرَّع منها تلك المسائل والمباحث وأَبواب العلم. وهذا ما تُشير إِليه بيانات الوحي ، منها : بيان قوله عزَّ ذكره : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (3). فإِنَّه برهانٌ وحيانيٌّ دالٌّ على أَنَّ نفس المعلومات والمعادلات العلميَّة والعقليَّة والمعرفيَّة الإِلٰهيَّة المُودعة في بيانات القرآن الكريم لها هيمنة وإِشرَاف وإِحاطة وسَعَة تتخطَّىٰ ما موجود في سائر الكُتُب السَّماويَّة الأُخرىٰ ـ كـ : التوراة ، والإِنجيل ـ (4). ثُمَّ إِنَّ الإِحْكَام في عَالَم المعاني غير الإِحْكَام في عَالَم البلاغة والدِّلالة والأَلفاظ. ويحتاج ـ الإِحْكَام في عَالَم المعاني ـ إِلى علمٍ وافرٍ. وكُلَّما زاد العلم فيه صعد الفهم في تشخيص المُحْكَم. إِذَنْ : القرآن الكريم وإِنْ كان جميعه ـ صدوراً وأَلفاظاً ودلالات ـ نوراً وحُجَّة قطعاً ، لكنَّه مع كلِّ ذلك يُحذِّر الباري عزَّوجلَّ من المساواة بين طبقاته ومراتبه ، وإِيَّاكَ أَنْ تأخذ بها بمفردها ، بل بعضها فتْنَوِي وزيغي وهو المُتشابه إِنْ اِتَّبَعَهُ المخلوق بمفرده وبعقله ، أَمَّا إِذا أَخذ به وبالمُحْكَمات تحت رعاية الراسخين في العلم لا بعقله فسيهتدي. إِذَنْ : مع أَنَّ جميع القرآن الكريم عظيمٌ ونورٌ ومُقَدَّسٌ ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لكن نفس القرآن الكريم يُشير إِلى أَنَّ نظام المعلومات ونظام المعادلات العلميَّة الموجودة فيه ليس على طبقةٍ واحدةٍ في الأَهميَّة والعظمة ، بل على طبقات. وعلى هذا قس السُّنَّة الشَّريفة ؛ فإِنَّهما يرتضعان من ثدي واحد ، ومن ثَمَّ ورد عن أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم : أَنَّ في أَخبارهم مُحْكَمَاً ومُتشابهاً، والمُتشابه لا يجوز الأَخذ به إِلَّا تحت رعاية المُحْكَمات. فلاحظ : بيان الإمام الرَّضا عليه السلام : «مَنْ رَدَّ مُتشابه القرآن إِلى مُحْكَمه هُدِيَ إِلى صراطٍ مستقيم ٍ، ثُمَّ قال عليه السلام : إِنَّ في أَخبارنا مُتشابهًا كمتشابه القرآن ، ومُحْكَماً كمُحْكَمْ القرآن ، فردُّوا متشابهها إِلى مُحْكَمها ، ولا تَتَّبِعُوا متشابهها دون مُحْكَمها فتضلُّوا»(5). / حجِّيَّة الخبر / ثُمَّ إِنَّ العمدة عندنا وركن أَركان حُجِّيَّة الخبر ؛ والسُّلَّم الَّذي يُرتقىٰ ويُعرج به في عَالَم المعاني ـ سوآء أَكان ذلك في علم الفروع أَم في علوم المعارف الإِلٰهيَّة(6) وجملة العلوم الدِّينيَّة والشَّرعيَّة ـ لا يكمن في حُجِّيَّة صدور الخبر وسنده(7) وإِنْ كان متواتراً (8) ؛ ولا في حُجِّيَّة دلالته وإِنْ كانت صريحة وقطعيَّة ـ فإِنَّ هذه الحُجَج لا تؤمِّن إِلَّا لقلقة الأَلفاظ ، أَمَّا المعاني فلا(9) ـ وإِنَّما يكمن في المتن. والمراد من حُجِّيَّة المتن ليس حُجِّيَّة الدلالة ، وإِنَّما المراد : نفس نظام المعلومات المودعة في متن الخبر ، فيدرس الفقيه أَو الباحث ذلك المتن والمضمون ـ بغض النَّظر عن الدَّليل ودلالته وصدوره وسنده وجهته ؛ والكتاب الَّذي وَرَدَ فيه المتن والمضمون ـ ويعرضه على مُحْكَمات الكتاب الكريم، ومُحْكَمات السُّنَّة القطعيَّة، ومُحْكَمات وبديهيَّات العقل ، ومُحْكَمات وبديهيَّات الوجدان الَّتي لا يختلف عليها وجدان بشر ، ويوزنه مع منظومة معادلات وقواعد الدِّين والشَّريعة ، فإِذا أَورث له ذلك العرض : القطع واليقين بمطابقة هذا المتن والمضمون لتلك المُحْكَمات كانت حُجِّيَّة ذلك المتن وحيانيَّة ذاتيَّة. وهذا هو أَعظم ميزان وضابطة قُرِّرَت في بيانات الوحي لحُجِّيَّة الخبر. ثُمَّ إِنَّ صحَّة وحُجِّيَّة المتن والمضمون ليست من شأن الرواة بما هم رواة ، وإِنَّما هي من شأن الفقهاء المُتضلِّعين في فقه الفروع ، وفي علم الكلام، وعلم العقائد والمعارف الإِلٰهيَّة ، وعلم الأَخلاق والآداب(10) والنظام الرُّوحي والأَخلاقي والآدابي الدِّيني ، وعلم التَّفسير ، وعلم السِّيَر، وغيرها. بخلاف صحَّة السَّنَد وحُجِّيَّته ؛ فإِنَّه يمكن معرفتها من قِبَلِ عامَّة النَّاس ، وتدور مدار الحافظة ، كما أَشارت إِلى ذلك بيانات الوحي ، أَمَّا حُجِّيَّة المتن والمضمون فتحتاج إِلى حصول مطابقة ـ المتن والمضمون ـ لأُصول وقواعد الشرع والدِّين ، وهذه ليست من إِختصاص إِلَّا الفقيه المُتضلِّع في شَتَّىٰ العلوم الشرعيَّة والدِّينيَّة ؛ فصحَّة المتن والمضمون لا تدور مدار فقاهة الفقيه فحسب ، بل وتضلُّعه في كافَّة العلوم الشَّرعيَّة والدِّينيَّة. إِذَنْ : صحَّة المتن والمضمون تتطلّب فقاهة وتضلُّع الفقيه بذلك العلم الَّذي يختصُّ به ذلك المتن والمضمون ، فلو لم يكن للفقيه باعٌ بالعلم الَّذي يختصُّ به المتن والمضمون فَمِنْ أَين يعرف صحَّة وحُجِّيَّة ذلك المتن والمضمون وعدمها. وهذا بحث تصوِّري وتصديقي لا يتوقَّف على حُجِّيَّة صدور الخبر وسنده. وهذه القضيَّة ـ أَي : التعامل مع حُجِّيَّة المتن وعرضه على مُحْكَمَات الشَّرع والدِّين ـ ليست خاصَّة بمدرسة الإِماميَّة ، بل شاملة لكافَّة مدارس ومذاهب المسلمين. هذا هو المذهب والمنهج العلمي لمشهور طبقات الفقهاء ، ومشهور علماء مدرسة الإِماميَّة ، بل ومدارس العامَّة ، كما نقل ذلك الشَّيخ الأَنصاري في رسائله، ومن أُولئكَ الفقهاء والعلماء : الشَّيخ المفيد ، والسيِّد المرتضىٰ ، وابن البرَّاج ، والحلبيُّون ، والكشي ، وابن الغضائري ـ الابن ـ ، والنجاشي ، وابن إدريس ، وابن زهرة ، والمُحقِّق الحلِّي ، بل والشَّيخ الطُّوسي وإِنْ اختلف مبناه قليلاً. ويُعبَّر عن هذا المنهج بـ : (دراسة المتن ومحوريَّة المُحْكَمَات). لكنَّه منهج مهجور ومُغَيَّب في العصر الراهن. وقد أَطلق الشَّيخ المفيد والمُحقِّق الحلِّي عنوان الحشويَّة والقشريَّة على مَنْ يجعل السند والطَّريق الرُّكن الرَّكين في حُجِّيَّة الخبر ، لكن هذا لا يعني أَنَّه لا دور للسند والطَّريق في حُجِّيَّة الخبر ، بل له دور لكنَّه ليس هو الرُّكن الرَّكين ، ولا يؤمِّن إِلَّا لقلقة الأَلفاظ ، أَمَّا المعاني فالَّذي يُؤمِّنها ويُؤمِّن الإِنطلاق إِلى العمق هو المتن بتوسُّط أَلفاظ الوحي. ولك أَنْ تقول : إِنَّ الإِقتصار على النقل منهج المبتدئِين ، وطمع الباحث عن الحقيقة لا يكون إِلَّا في الفهم العقلي بالنَّقل ، والعلم العقلي المُنظَّم للنَّقل ، ولا يتمُّ إِلَّا من خلال البرهان والعلم والنُّور المُستفاد من الإِشارات الإِرشاديَّة للمُقدِّمات العلميَّة اليقينيَّة الموجودة في متون بيانات الوحي الإِلٰهيّ الطَّاهرة الباهرة. / ضرورة التَّمسُّك بقوالب بيانات الوحي والغور في أَعماقها غير المتناهيَّة / / قاعدة التَّوقيفيّة شاملة لكافَّة المعارف الإِلهيَّة / / معنى قاعدة التَّوقيفيَّة : التَّمسُّك بأَلفاظ الوحي والغور في بحور معانيها / وهناك توصية وردت في بيانات أَهل البيت عليهم السلام المعرفيَّة ، حاصلها : أَنَّ الباحث والمُستنبط إِذا أَراد الاستعصام والتَّخَلُّص من الضَّلال والزيغ والإِنحراف فعليه نشب أَظفاره والتَّمَسُّك بكُلِّ ما أُوتي من قوَّة بأَلفاظ وعناوين وقوالب بيانات الوحي ، وإِلَّا ـ أَي : إِذا استبدل أَلفاظ وعناوين وقوالب بيانات الوحي بألفاظ وعناوين ومصطلحات وقوالب البشر ـ كان في معرض الإِرتطام في الضَّلال والزَّيغ والإِنحراف. وهذا أَحد معاني ما ورد عنهم صلوات اللّٰـه عليهم ؛ عن الإِمام الصَّادق عليه السلام : «... فواللّٰـه لنحبّكم أَنْ تقولوا إِذا قُلْنا ، وتصمتوا إِذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين اللّٰـه»(11). فإِنَّه شامل بإِطلاقه إِضافة إِلى معاني بيانات الوحي شامل أَيضاً لأَلفاظها. إِذَنْ : حُجِّيَّة المتن المُنطلِقة من أَلفاظ بيانات الوحي هي الأَساس. ومعناه : أَنَّ قاعدة التوقيفيَّة والتَّوقيتيَّة لا تختصُّ بباب الأَسماء والصِّفات الإِلٰهيَّة ، بل تشمل كافَّة المعارف الإِلٰهيَّة . لكن : ليس معنىٰ هذه القاعدة الجمود على أَلفاظ بيانات الوحي ؛ فإِنَّ ذلك حشويَّة وقشريَّة أَيضاً ، وإِنَّما معناها : التَّمسُّك بالقوالب الوحيانيَّة والغور في بحور معانيها المُتلاطمة الطمطامة غيرالمتناهية ، وهنا تكمن الصعوبة ، وتظهر حذاقة الفقيه المُتضَلِّع، وقوَّة فقاهته. /خلاصة ما تقدَّم/ والخلاصة : أَنَّ حُجِّيَّة الخبر عند جلَّ العلماء مُترتِّبة طولاً في مقام الإِستنباط وبالشَّكل التَّالي : أَوَّلاً : حُجِّيَّة المتن والمضمون ، ثُمَّ صحَّة وحُجِّيَّة الكتاب (12)، ثُمَّ حُجِّيَّة الطَّريق والسند. وهذه حُجَجٌ طوليَّة ، فإِذا حصل للفقيه المُتضلِّع : القطع واليقين بمطابقة متن الخبر ومضمونه لمُحْكَمَات الدِّين والشَّريعة أُخذ به وإِنْ كان ذلك ـ المتن ـ وارداً بخبر ضعيف السند ؛ وذلك للقطع بمطابقة متنه ومضمونه لمُحْكَمَات الدِّين والشَّريعة ، وتكون حُجِّيَّته حينئذٍ ذاتية وحيانيَّة ، وهي مُقدَّمة على كافَّة الحُجَج ، نعم إِذا لم يحصل القطع واليقين لدىٰ الفقيه المُتضَلِّع بمطابقة متن ومضمون الخبر لمُحْكَمَات الدِّين والشَّريعة انتقل إِلى المرتبة الثّانية من مراتب حُجِّيَّة الخبر ، وهي : صحَّة وحُجِّيَّة الكتاب الوارد فيه ذلك الخبر ، فإِنْ كان ـ ذلك الخبر ـ وارداً في كتابٍ صحيح وحُجَّة ـ كـ : كتاب الكافي ـ أَخذ به وأَفتىٰ على وفقه ، وإِلَّا ـ أَي : إِذا لم يكن الكتاب صحيحاً و حُجَّة ـ انتقل ـ الفقيه ـ إِلى المرتبة الثالثة من مراتب حُجِّيَّة الخبر ، وهي حُجِّيَّة سنده ، فإِنْ كان مُعتبراً سنداً أَخذ به وأَفتىٰ على وفقه في فقه الفروع وفي أَبواب المعارف وتفاصيل العقائد ، وإِلَّا ـ أَي : إِنْ لم يكن مُعتبراً سنداً أَيضاً ـ سقط عن الحُجِّيَّة والإِعتبار ، وأَعرض عنه ـ هذا إِنْ لم تكن هناك حُجَجٌ طوليَّةٌ أُخرىٰ يتبنَّاها الفقيه كـ : (حُجِّيَّة عمل الطائفة) ـ نعم ، يُمكن الأَخذ به على نحو المؤيِّد والمُنبِّه على برهانٍ في دليلٍ آخر. لكن : عكس المعاصرين هذه الحُجَج ، بل جعلوا المجموع في عرضٍ واحدٍ ، بل حصروها في حُجِّيَّة الطَّريق والسند ، وغرابة حصر منهج وطريق المعرفة والإِستنباط بالظَّنِّ التَّعَبُّدي والتواتر الحسِّي واضحة ؛ فإِنَّ الظَّنَّ التَّعَبُّدي النقلي ، بل والتواتر واليقين النقلي لا يزيد عن دائرة إِيجاد العلم واليقين الحسِّي ، ولا يرتقي إِلى العلم واليقين العقلي فضلاً عمَّا فوقه من العلم واليقين الوحياني. نعم ، لا غنىٰ عن العلم النقلي ، بل لا مجال لإِنكار ضرورته ، لأَّنَّه مُقدِّمة لليقين العقلي ولليقين الوحياني الواسع بِسَعَة أُفق الوحي ، ومن ثَمَّ لابُدَّ من الإِبتداء بالعلم النقلي ؛ لتحصيل اليقين العقلي والوحياني ، لكن : العِلم النَّقلي ـ وهو منهج المبتدئين ـ لا يُقتصَر عليه ، وإِنَّما لا بُدَّ من الغور في أَعماق بحور معاني وحقائق بيانات الوحي غيرالمتناهية ، من خلال التَّدبُّر والتَّأَمُّل العقلي في متون النقول ومضامينها. / إِشكال وجواب/ ومنه يتَّضح : حَلّ إِشكال البعض على الشَّيخ الأَنصاري وغيره ممَّن يقول في بحث أُصول الفقه بـ : أَنَّ الخبر حتَّىٰ يصحُّ الأَخذ به في مقام الاستنباط لابُدَّ أَنْ يكون مُعتبراً شرعاً ، لكنَّه في بحث الفقه والتَّوصُّل إِلى النتائج يغفل أَو يتغافل عن هذه القضيّة الَّتي حرَّرها في بحث أُصول الفقه، ويأخذ بالخبر ويُرتِّب عليه الآثار الفقهيَّة وإِنْ كان ضعيفاً سنداً ، فَمَا عدا مِمَّا بدا. والجواب : أَنَّ الشَّيخ الأَنصاري وإِنْ كان يقول باعتبار حُجِّيَّة سند الخبر ، لكنَّ مبناه ـ كمبنىٰ استاذه صاحب الجواهر وغيره هو ـ مبنىٰ مشهور المُتقدِّمين القائلين بهذه الحُجَج الطوليَّة ، فإِنَّه وإِنْ قرَّر الفقيه في بحث الأُصول : أَنَّ الخبر لا يصحُّ الأَخذ به إِلَّا إِذا كان مُعتبراً سنداً ، لكنَّه في بحث الفقه ومقام الاستنباط أَوَّل ما يُلاحظ الفقيه من المُتقدِّمين المتن والمضمون ، ويعرضه على مُحْكَمَات الكتاب الكريم والسُّنَّة الشَّريفة ، فإِذا أَورث له ذلك العرض القطع واليقين بمطابقة ذلك المتن والمضمون لمُحْكَمَات الثقلين كانت حُجِّيَّة ذاتيَّة إِمَّا عقليَّة أَو وحيانيَّة ، ووجب الأَخذ به وترتيب الآثار الشَّرعيَّة والمعرفيَّة والعقائديَّة عليه وإِن كان ضعيفاً وغير مُعتبرٍ سنداً ؛ لأَنَّ حُجِّيَّة واعتبار سند الخبر تأتي في مرتبة مُتأخِّرة طوليَّة ثالثة؛ لم تصل إِليها حاجة الفقيه بحسب الفرض. نعم ، إِذا لم يحصل له القطع واليقين بمطابقة متن ومضمون الخبر لمُحْكَمَات الثقلين التجأ إِلى الجهة التالية من جهات الحُجِّيَّة ، وهي صحَّة وحُجِّيَّة الكتاب ، فإِنْ كان وارداً في كتابٍ صحيحٍ ومعتبرٍ عند الإِماميَّة ـ كـ : كتاب الكافي ـ أَخذ به ، وإِلَّا صار أَمر الفقيه إِلى الجهة الثالثة من جهات الحُجِّيَّة ، وهي حُجِّيَّة السند، فإِنْ كان مُعتبراً بحسب مبانيه الرجاليَّة أَخذ به ، وإِلَّا فلا. هذا إِنْ لم يَقُل بغير هذه الحُجَج الثلاث ؛ كحُجِّيَّة: (عمل الطائفة) ، وإِلَّا التجأ إِليها ؛ وصحَّح الخبر على وفقها إِنْ أَمكن. / المراد من الجهة الثانية من جهات الحُجِّيَّة/ / مراد الفقهاء من صحَّة وحُجِّيَّة الكتاب/ إِنَّ أَحد معاني صحَّة الكتاب واعتباره ليس ما توهَّمه الإِخباريون وبنىٰ عليه السيِّد الخوئي في كامل الزيارات وتفسير القُمِّيّ ، بل وبنىٰ عليه أستاذه الميرزا النائيني في حقِّ كتاب الكافي تبعاً لأُستاذه الميرزا النوري ؛ وأَنَّ كُلَّ ما موجود فيه قطعي الصدور أَو ظَنِّي الصدور بالظَّنِّ المُعتبر ، فإِنَّ هذه صحَّة مُحدِّثين ، وليست صحَّة فقهاء ؛ وإِنَّما المراد من صحَّة الفقهاء : ما ذكره الشَّيخ الكليني في أَوَّل الكافي ، وما ذكره الصدوق في أَوَّل الفقيه ، وما ذكره محمَّد بن الحسن الأَشعري في كفاية الأَثر ، وما ذكره الشَّيخ الطوسي في أَوَّل التَّهذيب ، وهو : أَنَّ مُصَنِّف الكتاب يتعهَّد بجميع ما وضعه في كتابه من روايات ـ بقطع النظر عن صدورها وسندها ـ أَنَّ متونها ومضامينها لا تُناقض ولا تُخالِف ضرورة من ضروريَّات الدِّين والكتاب والسُّنَّة ، ولا تُخالِف مُحْكَمَاتها، وهذه الصحَّة أَعظم فقاهة من مسلك صحَّة الطريق ؛ فإِنَّه مسلك حشوي ؛ إِذْ الإِقتصار على صحَّة الطريق من دون النظر إِلى متن ومضمون الرواية ـ كما يقول الشَّيخ المفيد والمُحقِّق الحلِّي ـ حشويَّة وقشريَّة ليست للفقهاء مسلكاً ، فإِنَّ مسلكهم يعتمد على فهم المتون والمضامين : فهل هي مناقضة ومخالفة لضروريَّات ومُحْكَمَات الدِّين والشِّريعة ، أَو أَنَّها مطابقة ولم تخالف القوانين الدستوريَّة العقائديَّة والمعرفيَّة في الدِّين ؛ أَو القوانين الدستوريَّة الثابتة في الفقه. / نُكتة تقدُّم الجهة الأُولى والثانية على الثالثة: / وصارت حُجِّيَّة المتن والمضمون مُقدَّمة على حُجِّيَّة السند ؛ وذلك لأَنَّ حُجِّيَّة المتن والمضمون تتمُّ من خلال عرض المتن والمضمون على مُحْكَمَات الكتاب الكريم والسُّنَّة الشَّريفة ، فإِذا أَورث ذلك العرض للفقيه القطع واليقين بمطابقته لتلك المُحْكَمَات كانت هذه الجهة ـ أَي : الجهة الأُولىٰ والثانية ـ من جهات الحُجِّيَّة مُقدَّمة على الجهة الثالثة وهي حُجِّيَّة السند وإِنْ كان الخبر متواتراً سنداً ؛ لأَنَّ هذا العرض إِنْ ولَّد للفقيه أَو لمُصنِّف الكتاب ـ كالكليني ـ القطع واليقين بمطابقة الخبر لمُحْكَمَات الثقلين كانت حُجِّيَّة ذلك اليقين ـ لدىٰ الفقيه أَو المُصنِّف ـ ذاتيَّة عقليَّة أَو وحيانيَّة ، وهي مُقدَّمة على حُجِّيَّة اليقين الحسِّي المستفاد من التواتر السندي فضلاً عن حُجِّيَّة الظن المُعتبر ؛ لأَنَّ التواتر السندي فضلاً عن الظَّنِّ السندي المُعتبر لا يُؤمِّن اليقين بمطابقة متن ومضمون الخبر لمُحْكَمَات الثقلين ، وإِلَّا كانت حُجِّيَّة الخبر ذاتيَّة ـ وحيانيَّة أَكانت أَم عقليَّة ـ ومن الجهة الأُولىٰ أَو الثانية. وتأَخَّرت الجهة الثانية من جهات الحُجِّيَّة عن الجهة الأُولىٰ ؛ وذلك لأَنَّ الَّذي يقوم بعمليَّة عرض المتن والمضمون في الجهة الأُولىٰ نفس الفقيه المُتصدِّي لعمليَّة الإِستنباط وتحصيل النتائج ، بخلاف الجهة الثَّانية من جهات الحُجِّيَّة ؛ فإِنَّ الَّذي يتصدَّىٰ لهذا العرض مُصنِّف الكتاب كالكليني، وهو بحسب الفرض من ثِقات وكُبَّار علماء الإِماميَّة ، فاعتمدت هذه الجهة على خبر الثقة. وتقدَّمت الجهة الثانية على الثالثة مع أَنَّ المُعتَمَد عليه في كليهما خبر الثقة ؛ بل في الثالثة قد يُعتَمَد على التواتر الحسِّي ؛ وذلك : أَنَّ مُصنِّف الكتاب ناظر إِلى متن ومضمون الخبر ـ كما تقدَّم ـ ؛ وأَنَّه مقطوع بمطابقته لمُحْكَمَات الثقلين ، بخلافه في الجهة الثالثة ؛ فإِنَّ النظر يكون إِلى السند بقطع النظر عن مطابقة مضمون الخبر للمُحْكَمَات وعدمها. وبالجملة : دراسة متون الأَحاديث ومضامينها أَعظم : دراسة علميَّة صناعيَّة اجتهاديَّة ، بل بها تُقام دراسة الأَسانيد والطرق لا العكس. وهذا أَمرٌ مهمٌّ ، ومن ثَمَّ من يكون لديه باع في علوم المعارف يتمكَّن من تشخيص عن بصيرةٍ واجتهادٍ المنحرف من الرواة من غيره ، وذلك من خلال مطابقة مضامين ما ينقله مع مُحْكَمَات الثقلين وعدمها. ومن ثَمَّ كان مبنىٰ النجاشي والغضائري المُتشدِّد : أَنَّ صحَّة الكتاب المرتبطة بالمضمون أَعظم من صحَّة الطَّريق ، وهذا يتَّضح من خلال مراجعة جرحهما وتعديلهما. وهذه الأُمور لابُدَّ للباحث أَنْ يجدها بنفسه ، فعليه التتبُّع والتنقيب والإِجتهاد عن دراية وبصيرة ، فَمَنْ كان يُريد مراجعة كتاب النجاشي ـ مثلاً ـ فعليه أَنْ لا يُلاحظ النتائج الصَّادرة من مُصنِّفه من جرح وتعديل وما شاكلها ؛ لأَنَّ الأَخذ بها تقليد له ، وإِنَّما عليه قراءة النظام والصرح العلمي في مبناه ومساره العلمي ، وحينئذٍ تكون ـ تلك المراجعة ـ مراجعة علميَّة نافعة. وعلى هذا قس العمل مع كتاب الفهرست للشَّيخ الطوسي ، وكتاب رجال : (البرقي) ، و (العقيقي) ، و (ابن الغضائري) ؛ لمعرفة مبانيهم ومساراتهم العلميَّة ، وليست آرائهم وفتاويهم النهائيَّة. إِذَنْ : علم الرجال علم مضامين ، وليس علم نقول. وبالجملة : ليس مراد الكليني في الكافي ولا ابن قولويه في كامل الزيارات ولا الأَشعري في كفاية الأَثر ، ولا الصدوق في الفقيه ولا الطوسي في التهذيب من صحَّة الكتاب صحَّة الصدور ـ فإِنَّ بعض رواياتهم في تلك الكُتُب مراسيل ومقطوعات ومرفوعات ـ ، وإِنَّما مرادهم : صحَّة وحُجِّيَّة المتن والمضمون، وأَنَّه ليس في روايات تلك الكُتُب ما يُناقض أَو يُخالف ضروريَّات ومُحْكَمَات الدِّين والشَّريعة. فحينما يروي ـ مثلاً ـ الكليني والصدوق ، عن أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه : «... إِنَّ نور أَبي يوم القيامة يُطفئ أَنوار الخلائق إِلَّا خمسة أَنوار : نور مُحمَّد صلى الله عليه واله ونوري(13) ونور الحسن والحسين ، ونور تسعة من ولد الحسين ؛ فإنَّ نوره من نورنا الَّذي خلقه اللّٰـه تعالىٰ قبل أَنْ يخلق آدم بألفي عام»(14) ، فإِنَّ مُرادهما : أَنَّ مضمون هذا الحديث ـ بغض النظر عن اعتبار سنده وصحَّة صدوره ـ لا يتصادم ولا يخالف مُحْكَمَات الدِّين والشَّريعة والكتاب والسُّنَّة ويوافق خطوطها العامَّة. إِذَنْ : منهج ومسلك الفقهاء في المقام يختلف عن منهج ومسلك المُحدِّثين ، ومن ثَمَّ الَّذي يرفع علامة صحَّة الصدور من دون أَنْ يهتم بالمضمون فمنهجه ومسلكه ليس منهج ومسلك فقهاء الإِماميَّة ، وإِنَّما منهج ومسلك المُحدِّثين. ومنه يتَّضح : أَنَّ زعماء اتباع مدرسة أَهل البيت عليهم السلام كالكليني والصدوق والمفيد والمرتضىٰ والطوسي حينما يودعون كُتُبهم روايات عن أَفراد أَصحاب الدائرة الاِصطِفائيَّة الثانية لأَهل البيت عليهم السلام فهذا يُدلِّل على أَنَّهم يفهمون : أَنَّ لأَصحاب هذه الدائرة شأن كبير ، وعلاوة في الاِصطِفاء. / أَدلَّة تراتب الحُجَج الثلاث / وتشير إِلى ترتُّب وتراتب هذه المراحل وجهات الحُجِّيَّة الثلاث بيانات الوحي الوافرة ، منها : 1ـ بيان قوله تقدَّس ذكره : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (15)(16). فـ : (التلاوة) ـ المُشار إِليها في بيان قوله تقدَّس ذكره : يَتْلُو عَلَيْهِمْ ـ : إِشارة إِلى العلم النَّقلي الحسِّي ، وهو مُقدِّمة. وضرورة (التَّعَلُّم) ـ المُشار إِليها في بيان قوله تقدَّس ذكره: وَيُعَلِّمُهُمُ(17)ـ : إ ِشارة إِلى الفهم العقلي لموارد الوحي ؛ لتحصيل العلم واليقين والبرهان الوحياني ، وهو ذو المُقدِّمة والغاية الأَسْمَىٰ ، الَّذي هو فحوىٰ مفاد المُعجزة. فانظر : بيان قوله عزَّ قوله : وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (18)(19). ودلالته واضحة على أَنَّ المعاجز ـ كمعجزة القرآن الكريم ، وهي الأَعظم ـ ، بل والكرامات الإِلٰهيَّة تُورِث لِـمَنْ تأَثَّر بها : العلم واليقين والبرهان الوحياني. وبالجملة : أَحد تعاريف المُعجزة : أَنَّها عبارة عن بزوغ وبروز لمعان أَشعَّة أَنوار غيبيَّة مهولة ؛ إِمَّا في القُدرة ، أَو في آيةِ كمالٍ غيبيٍّ رهيبٍ ، تنتشل بسرعة مَنْ يرىٰ من خلالها لمعان أَنوارِ غيبٍ عظيمةٍ ، ومن ثَمَّ تحصل له حالة إِخبات دفعيّ قهريّ ، تتضعضع له أَعماق ذاته وكافَّة قواه ؛ فيسجد لباعثها تذلُّلاً ، كما حصل ذلك لسحرة بني إِسرائيل. فانظر : بيان قوله تعالىٰ : فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (20). وهذه نفس فائدة البرهان ؛ فإِنَّه يُخرج الطرف من ساحة الفكر إِلى تجلِّيات في الفطرة ، فإِذا شاهد العظمة خبت. إِذَنْ : المعجزة الإِلٰهيَّة خطاب إِلهيّ مباشر ؛ ومن دون واسطة من اللّٰـه عزَّوجلَّ مع خلقه. 2ـ بيان قوله جلَّ قوله : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (21)(22). فـ : (النفر) : إِشارة إِلى مرحلة الرُّواية ؛ والنقل الحسِّيّ ؛ وهو مُقدِّمة. و (التَّفقُّه) ـ المُشار إِليه في بيان قوله جلَّ قوله : لِيَتَفَقَّهُوا ـ وهو: الفهم(23): إِشارة إِلى الفهم العقلي لمضامين متون بيانات الوحي في المرحلة الثانية ، وهو: ذو المُقدِّمة ؛ والغاية الأَسْمَىٰ ؛ المُشار إِليها بلام الغاية : لِيَتَفَقَّهُوا(24). 3ـ بيان قوله جلَّ جلاله : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا(25). وتقريب الدلالة واضح ؛ فإِنَّه مع عدم تماميَّة السَّند ونسبة الصُّدور ـ إِذ بحسب ما فرضه بيان الآية الكريمة أَنَّه خبر فاسق ـ ، ومع عدم صحَّة طرحه ، أَو الأَخذ به بعماية هناك مسلك ثالث أَوصىٰ به بيان الآية الكريمة وأَوجبه ، وهو : (فحص المتن والمضمون ، والتَّبيُّن منه). وهذه التَّوصية الوحيانيَّة دالَّة على أَنَّ الأَساس والعُمدة والرُّكن الرَّكين في حُجِّيَّة الخبر والأَخذ والعمل به هو : (تبيُّن المتن والمضمون). نعم ، السَّند المُعتبر معاضد لحُجِّيَّة الخبر ، لكنَّ الرُّكن الرَّكين والعُمدة فيها هو : (حُجِّيَّة المتن والمضمون). 4ـ بيان قوله جلَّ وعلا : فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(26). ودلالته واضحة ؛ فإِنَّ مضمونه نفس مضمون بيان أَمير المؤمنين صلوات اللّٰـه عليه : «خُذِ الحِكْمَة مِمَّن أَتاك بها ، وانظر إِلى ما قال ، ولا تنظر إِلى مَنْ قال»(27) ؛ فإِنَّ الأَساس ينبغي أَنْ يكون النَّظر إِلى المتن والمضمون. 5ـ بيان قوله علا ذكره : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ(28). فإِنَّه برهانٌ وحيانيٌّ دالٌّ أَيضاً على أَنَّ المركز وقطب مرجعيَّة الفقيه والباحث والمُستنبِط وطالب الحقيقة ينبغي أَنْ يكون نظره إِلى المتن والمضمون ؛ فإِنَّ المُحكمات صارت كذلك ليس من جهة سندها وصدورها، وإِنَّما من جهة متنها ومضمونها. وهذا البيان الوحيانيُّ من البيانات والبراهين القرآنيَّة العظيمة المُبيِّنة لهذا المنهج المعرفيّ الخطير والدالَّة عليه. 6ـ بيان خطبة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله : «نضّر اللّٰـه ، عبداً سمع مقالتي فوعاها ؛ وبلِّغها مَنْ لم يسمعها ، فكم من حامل فقه غير فقيه ، وكم من حامل فقه إِلى من هو أَفقه منه ...»(29). 7ـ بيان أَمير المؤمنين عليه السلام : «همَّة السفهاء الرواية ، وهمَّة العلماء الدراية»(30). ودلالته ـ كدلالة سابقه ـ واضحة ؛ فإِنَّ المراد من عنوان : (السُّفهاء) المأخوذ في هذا البيان الإِلٰهيّ الشَّريف : مَنْ يتعامل مع بيانات الوحي بسطحيَّة وعدم رشد ، وعدم غور ، فيقتصر على صدور الرُّواية وأَلفاظها. 8 ـ بيانه عليه السلام أَيضاً : «عليكم بالدرايات لا بالروايات»(31). 9ـ بيانه عليه السلام أَيضاً : «اعقلوا الخبر إِذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية ؛ فإنَّ رواة العلم كثير ورعاته قليل»(32). 10ـ بيانه عليه السلام أَيضاً : «... وترككَ حديثاً لم تروه خير من روايتكَ حديثاً لم تحصه ، إِنَّ على كُلِّ حَقٍّ حقيقة ، وعلى كُلِّ صوابٍ نوراً ، فما وافق كتاب اللّٰـه فخذوا به وما خالف كتاب اللّٰـه فدعوه» (33). 11ـ بيان الإِمام الباقر مُخاطباً ولده الإِمام الصَّادق عليهما السلام : « يا بُنَيَّ ، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم ؛ فإنَّ المعرفة هي الدراية للرُّواية ، وبالدرايات للرُّوايات يعلو المؤمن إِلى أَقصى درجات الإِيمان ، إِنِّي نظرتُ في كتابٍ لِعَلِيٍّ عليه السلام فوجدتُ في الكتاب : أَنَّ قيمة كُلّ امرئٍ وقدره معرفته ، إِنَّ اللّٰـه تبارك وتعالىٰ يُحاسب النَّاس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدُّنيا»(34). 12ـ بيان الإِمام الصَّادق عليه السلام : «رواة الكتاب كثير ، ورعاته قليل ، فكم من مستنصحٍ للحديث مستغش للكتاب ، والعلماءُ تحزنهم الدراية ، والجهَّال تحزنهم الرواية»(35). 13ـ بيانه عليه السلام أَيضاً : «حديث تدريه خير من أَلفٍ ترويه ، ولا يكون الرَّجُل منكم فقيهاً حتَّىٰ يعرف معاريض كلامنا ...»(36). ودلالته ـ كدلالة سوابقه ـ واضحة على ضرورة الدراية بمتن ومضمون الرُّواية ، وعدم صحَّة واعتبار وحُجِّيَّة منهج الإِقتصار على مُجَرَّد الرُّواية. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المراد من المُحْكمات : القوانين الدستوريَّة المُبَدَّهة. ثُمَّ إِنَّ مُحْكَمات الكتاب الكريم والسُّنَّة الشَّريفة تعني : يقين وحياني. لكنْ : إِذا دخلت في وعاء المُتلقِّي وكان غير معصومٍ فلا تكون وحياً ولا محكماً ، وحُجِّيَّتها ظنيَّة الدلالة، وإِنْ حصل له القطع واليقين بتلك الدلالة ؛ فإِنَّ هذا القطع واليقين لا يخرج عن حريم الحسِّ ، وهو في عِرضة الخطأ والإِشتباه ، وَمِنْ ثَمَّ تؤول حقيقة هذا القطع واليقين إِلى ظنٍّ ، فالتفت ، وتأَمَّل جيِّداً. (2) آل عمران : 7. (3) المائدة : 48. (4) معنىٰ كلمة : (التوراة) في اللغة العبريَّة : الشَّريعة. ومعنىٰ كلمة : (الإِنجيل) في اللغة العبريَّة أَيضاً : البشارة الملكوتيَّة. (5) بحار الأَنوار ، 2 : 185/ ح9. (6) يجدر الإِلتفات : أَنَّ المعارف والعقائد الإِلٰهيَّة حقائق تكوينيَّة من أَكوان وعوالم غيبيَّة صاعدة. (7) ضعف الطَّريق واعتباره لا دخالة له في تحصيل البرهان من المتن والمضمون. (8) التَّواتر السندي لا ينفع في أَبحاث العقائد ، لأَنَّه يُورث اليقين الحسِّي ، والمطلوب في أَبحاث العقائد تحصيل اليقين العَقلي ، وفيه ـ اليقين العقلي ـ لا يُفرَّق بين الرواية المتواترة والضعيفة سنداً ، لأَنَّ البيان والبرهان العقلي المُستفاد من المتون والمضامين هو المطلوب في هذه الأَبحاث. ويُضاف إِليه : أَنَّ الخبر المُتواتر سنداً قد يكون متنه ظنِّيّ الدلالة فعاد إِلى الظَّنِّ ، وهو لا ينفع في أُسس وأُصول العقائد. فالتفت. ثُمَّ إِنَّه يجب على الَّذي ليس له باع عقلي في أَبحاث العقائد ترك أَبحاث هذا الباب ، ولا يلجه ولا يتصدَّىٰ إِليه ، وليترك المجال لمن له الأَهليَّة في ذلك. (9) ينبغي الإِلتفات : أَنَّ لقلقة ودغدغة المعاني ـ فضلاً عن الحقائق ـ غير لقلقة ودغدغة الأَلسن. وكذا حفظ المعاني فضلاً عن حفظ الحقائق فإِنَّهما غير حفظ الأَصوات. (10) ينبغي الإِلتفات : أَنَّ الأَدب والخُلق وجهان لحقيقة واحدة ، غاية الأَمر : أَنَّ الخُلق هيئة نفسانيَّة ، والأَدب هيئة بدنيَّة ، وبينهما ترابط ؛ فالأَدَب الصَّالح هيئة بدنيَّة نابعة من الخُلق الصَّالح ، والأَدب الطَّالح هيئة بدنيَّة أَيضاً ، لكنَّها نابعة من الخُلق الطَّالح. إِذَنْ : الفارق بين الآداب والأَخلاق : أَنَّ الأَخلاق هي : الصِّفات والهيئات النَّفسانيَّة ، أَمَّا الآداب فهي : الهيئات البارزة على السلوك العملي الجارحي ، وهي انعكاسات عن تلك الصِّفات والهيئات النفسانيَّة ؛ فهي هيئات عارضة على الأَعمال الجوارحيَّة منبعثة عن الصِّفات والهيئات النَّفسانيَّة. وبالجملة : الآداب أُمور محسوسة تُرىٰ بالعين المُجرَّدة ؛ كآداب لمائدة والحمَّام وما شاكلها ، بخلاف الأَخلاق ؛ فإِنَّها لا تُرىٰ ولا تُلمس باليد. والأَدب إِنْ كان سيئاً يكشف عن خُلقٍ سيء ، والخلق السيء يكشف عن نقصٍ في المعرفة على أَقلِّ تقدير. (11) بحار الأَنوار ، 2: 95/ح37. (12) سيأتي (إِنْ شاء اللّٰـه تعالىٰ) في ختام هذه القضيَّة التَّعَرُّض إِلى هذه الحُجِّيَّة والجهة الثانية من جهات الحُجِّيَّة ، وهي صِحَّة و حُجِّيَّة الكتاب ؛ فانتظر هُنيئة. ونكتة التَّأخير : كيما لا يحصل تشتيت وتشويش في المطلب. (13) في رواية الشَّيخ بعد قوله : «ونوري» «ونور فاطمة». وعلى هذا فالخمسة إِمَّا مبنيّ على اتِّحاد نورَي مُحمَّد وعَلِيّ صلوات اللّٰـه عليهما ، أَو اتِّحاد نورَي الحسنين عليهما السلام ؛ بقرينة عدم توسُّط النور في البين ، ويُحتمل أَنْ يكون قوله : «ونور تسعة» معطوفاً على الخمسة. (بحار الأَنوار). (14) بحار الأَنوار ، 35: 69/ح3. أَمالي الشَّيخ : 192. الإِحتجاج : 122. (15) الجمعة : 2. (16) يجدر الإِلتفات :أَنَّه يجب على مَنْ يُريد استيضاح بيانات أَهل البيت عليهم السلام المُفسِّرة لآية من آيات القرآن الكريم فلا يخدعنَّه الفحص بمراجعة تفسير أَو تفسيرين ، بل عليه التَّيقُّظ والتَّفطُّن إِلى موارد وجود هذه الآية بأَلفاظها أَو بما يُقارب أَلفاظها ومعانيها في بيانات الوحي الأُخرىٰ ، وعليه أَيضاً أَنْ لا يُراجع مصدراً واحداً من مصادر التَّفسير ، بل عِدَّة مصادر. وبالجملة : باب الفحص والتَّنقيب العلمي باب واسع وشاسع جِدّاً ، ومن ثَمَّ لا ينخدع الباحث بدرجةٍ من الفحص والتنقيب ، ولا بدرجةٍ من التَّفكير والتَّأمُّل ، وإِذا ظَنَّ أَن ما توصَّل إِليه هو الذروة ورأس الهرم فليعلم أَنَّه أَرتطم بغفلة شنيعة وجهالة كبيرة ؛ فإِنَّ ما توصَّل إِليه بالضرورة الوحيانيَّة والعقليَّة لا بُدَّ أَنْ يكون متناهياً ومحدوداً ، ومعاني وحقائق بيانات الوحي غير متناهية وغير محدودة أَبداً بالضرورة الوحيانيَّة والعقليَّة أَيضاً ، ولا توجد نِسبة رياضيَّة بين المحدود وغيرالمحدود ؛ فإِنَّه دائماً إِذا قيس المحدود إِلى غيرالمحدود كان لا شيء وصفراً على جهة الشِّمال ، وإِلَّا لانقلبت ماهيَّة غيرالمحدود وكانت متناهية ، وبطلان انقلاب الماهيَّة من الواضحات ، بل هو خُلف الفرض. (17) الطريقة التعليميَّة السَّارية عليها بيانات الوحي في إِيصال المعلومة للطرف هي : التَّدرُّج في التَّعليم وعلى مراحل. (18) القصص : 31 ـ 32. (19) لا بأس بالإِلتفات : أَنَّه لا توجد لقطة في القرآن الكريم إِلَّا وتصبّ في ذكر اللّٰـه تقدَّس ذكره وخشيته وخشوعه. (20) الشعراء : 41 ـ 51. (21) التوبة : 122. (22) ينبغي الإِلتفات : أَنَّ القرآن الكريم هو : دستور اللّٰـه الخالد ، لكنَّ دستوريَّته وخلوده ومُؤدَّاه وفائدته وخطره وعلومه وعقائده ومعارفه لا تختصُّ في هذه النَّشأَة الأَرضيَّة ، ولا يُخاطب به الجنّ والإِنس فحسب ، بل شاملة لجملة العوالم وكافَّة المخلوقات ؛ لأَنَّه من الدِّين ، وهو شامل للجميع ، ومِنْ ثَمَّ خطاباته الواردة بلسان : «يا أَيُّها الَّذين آمنوا» شاملةٌ لكافَّة المؤمنين ، منهم : جملة الملائكة عليهم السلام ، فلذا ورد في بيانات الوحي : «أَنَّ الملائكة ، منهم المُقَرَّبين ـ كـ : جبرئيل وإِسرافيل وميكائيل عليهم السلام ـ حينما ينزل وحي القرآن الكريم على سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله يتعلَّمون منه صلى الله عليه واله ذلك القرآن المُنَزَّل». (23) ينبغي الإِلتفات : أَنَّ (الفهم) : أَمرٌ غيبيٌّ ، صادر من عوالم غيبيَّة صاعدة ، تتحكَّم فيها طبقات حقائق أَهل البيت عليهم السلام الصَّاعدة ، ومرتبتها فوق عَالَم الآخرة الأَبديَّة ، وهي فوق عَالَم السَّماوات السَّبع بعوالم ومراتب ، والكلُّ من عوالم الأَجسام. (24) يجدر الإِلتفات في المقام إِلى الأُمور الأَربعة التَّالية : الأَوَّل : أَنَّ المعرفة الإِلٰهيَّة ناموس مُقدَّس ، والسعي إِليها ناموس مُقَدَّس أَيضاً يقضُّ مضجع فِطَر المخلوقات. الثَّاني : أَنَّ أَعظم نِعَمِ اللّٰـه الواردة في بيان قوله تعالٰ : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: 18] النعم المعرفيَّة والمعنويَّة ، وليست البدنيَّة. الثَّالث : أَنَّ أخطر قلعة يغير عليها العدو : قلعة الفكر والرؤية العقائديَّة ؛ فإِنَّ أَمكنه زحزحة المخلوق عن الورع في العقيدة فسوف يتنجَّس باطنه وظاهره بكُلِّ نجاسةٍ ورجاسةٍ. ثُمَّ إِنَّ أَطهر الطهارات في التَّعَقُّل. الرابع : أَنَّ التكليف في العوالم اللاحقة لا ينقطع ، بل يزداد ويشتدُّ ، وهو شامل لكافَّة المخلوقات. (25) الحجرات : 6. (26) الزمر : 17 ـ 18. (27) غرر الحكمة ، 1 : 394. ميزان الحكمة ، 6 : 485. كنزل العمَّال /42218. (28) آل عمران : 7. (29) بحار الأَنوار ، 2 : 148/ح22. (30) المصدر نفسه : 160/ح13. (31) بحار الأَنوار ، 2 : 160/ح12. (32) المصدر نفسه : 161/ح21. (33) المصدر نفسه : 165/ح25. (34) المصدر نفسه : 184/ح4. (35) بحار الأَنوار ، 2 : 161/ح14. (36) المصدر نفسه : 184/ح5.