معارف إِلٰهيَّة : ( 48 ) قضايا و تنبيهات / القضيَّة و التَّنْبِيه الثامن و الاربعون
23/04/2024
القضيَّة و التَّنْبِيه الثامن و الاربعون: / بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين . / قصور مدارس البشر المعرفيَّة / / ما ذكرته مدارس البشر المعرفيَّة لا يُمثِّل جملة المعارف / هناك أَمر مهمٌّ جِدّاً في منهج العقائد ، وقضيَّة مُهمَّة جِدّاً لا بُدَّ من الإِلتفات إِليها ، ووعايتها بكُلِّ يقظة ، وإِلَّا فَسَتُطْمَس معالم مُبدَّهة في الدِّين ، وتندرس عن الثقافة الدِّينيَّة في وعي المؤمنين والمسلمين ، ونكون نحن المُقصِّرين والمسؤولين عنها يوم القيامة : أَمام اللّٰـه عزَّوجلَّ وأَمام سيِّد الأَنبياء وسائر أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ، حاصلها : ( أَنَّ ما ذُكر وكُتِبَ وقُرِّر وأُلِّف ، وما جُعِلَ منظومة مفهرسة من عقائد ومعارف في كُتُب علم الكلام لدىٰ كُلّ مدرسةٍ وطائفةٍ ومذهبٍ لا يُمثِّل جملة المنظومة العقائديَّة والمعرفيَّة الَّتي تعتنقها وتعتقد بها تلك المدرسة والطائفة والمذهب ) . وللتوضيح خذ الأَمثلة التَّالية : الأَوَّل : (إِمامة سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله) ؛ فإِنَّه مَنْ يُراجع كُتُب علم الكلام لدىٰ الفريقين فسيجد أَنَّها لم تذكرها بشكل وقولبة صريحة ، ولم تُركِّز عليها ، نعم ذكرتها ضمناً ، لكنَّه بحث آخر. مع أَنَّ بحثها كأَحد مقاماته صلى الله عليه واله أَمرٌ مُهمٌّ جِدّاً ؛ فإِنَّ نظرة الوحي لسيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله ليست كنظرة العلمانيَّة الغربيَّة والنصرانيَّة المُحرَّفة من أَنَّه داعي تنظيري ، أَو داعي رسولي للقضايا الرُّوحيَّة بين الفرد والملكوت فحسب ، وليست له صلة بالمجتمع ، لكن من يُراجع كُتُب مُحدِّثي ومُفسِّري الفريقين فسيجد أَنَّ إِمامته صلى الله عليه واله أَمر تسالمت عليه الكلمة ، وهي أَرفع مقاماً ، وأَعلىٰ شأناً ، وأَبلغ خطراً من مقام وشأن وخطر النُّبوَّة والرسالة الإِلٰهيَّتين. وعليه : فإِمامة أَهل البيت عليهم السلام الإِلٰهيَّة لا تبتدأ بأَمير المؤمنين وبعد استشهاد سيِّد الأَنبياء صلوات اللّٰـه عليهما وعلى آلهما ، وإِنَّما تبدأ من سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله حال حياته في هذه النشأة الأَرضيَّة ، بل قبلها. ومنه يتَّضح : أَنَّ سيِّد الأَنبياء صلى الله عليه واله وإِنْ كان خاتِم النُّبوَّة ، لكنَّه ليس بخاتِم الإِمامة الإِلٰهيَّة. المثال الثَّاني : (حُجِّيَّة فاطمة الزهراء صلوات اللّٰـه عليها) ؛ فإِنَّه مَنْ يُراجِع كُتُب علماء كلام الإِماميَّة ـ كـ : كتاب : الباب الحادي عشر ، والتجريد ، وشرحه ، وعقائد الإِماميَّة للشَّيخ المظفر ـ فسيجد أَنَّ هذا الموقع والمقام الإِلٰهيّ للسيِّدة الزهراء صلوات اللّٰـه عليها لم يُسطر ويُبحث بعنوانٍ أَو فصلٍ أَو بابٍ مُستقلٍ ، ولم يراعِ أَصحاب تلك الكُتُب قولبة منظومة بيانات الوحي الإِلٰهي ، نعم ، ذكروها ضمناً ، لكنَّه بحث آخر. وهذه مؤاخذة أَديانيَّة حضاريَّة خطيرة ؛ تُسجَّل على مُتكلِّمي الإِماميَّة. المثال الثَّالث : (الرَّجعة) ؛ فمع أَنَّها من ضروريَّات مدرسة الإِماميَّة، ومتواترة في بيانات أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ، بل ضرورة روائيَّة، لكن : مَنْ يُراجع كثير من كُتُب عقائد الإِماميَّة لم يجد لها عين ولا أَثر. المثال الرَّابع : مقام وموقع : (الـمُحدَّث) و(المُلهَم) ؛ فإِنَّ مَنْ يُراجع كُتُب علم كلام مذاهب المخالفين فسيجد أَنَّها لم تتعرَّض لهما ، لكن : مَنْ يُراجع كُتُب حديثهم وكُتُب مُحدِّثيهم وشُرَّاح : البخاري ومسلم وسائر صحاحهم فسيجد أَنَّهم يعتقدون ويؤمنون بهما ، وأَنَّهما من مقامات الشَّريعة ، بل من الأُمور المُبدَّهة عندهم. وهذا مؤشِّر على أَنَّ ما كُتِبَ ورقِّم في كُتُب كلام المخالفين لا يُمثِّل جملة منظومة عقائدهم ؛ الثابتة في أَحاديثهم وتفاسيرهم. فالتفت. ومن كلِّ هذا يتَّضح : أَنَّ الباحث إِذا بنىٰ خريطة بحوثه المعرفيَّة والعقائديَّة على ما رقَّمه المُتكلِّمون فسيرتطم لا محالة بمآزق معرفيَّة وعقائديَّة كثيرة جِدّاً ؛ لأَنَّ الخريطة والفهرسة المعرفيَّة والعقائديَّة الَّتي رسمها جملة من علماء كلام الإِماميَّة ؛ وساروا عليها نشئت نتيجة إِنشغالهم بالجدل والحوار الكلامي مع المذاهب الإِسلاميَّة ، فألجأتهم هذه الحواريَّات الَّتي لا انقطاع لها إِلى نوع تبويب ؛ ورسم خارطة للمعارف والعقائد الإِلٰهيَّة ؛ يفهمها ويلتفت إِليها الطرف الآخر. ومعناه : أَنَّهم اضطروا إِلى تنزيل الخطاب الكلامي والخطاب العقائدي إِلى مستوىٰ معارف وعقائد الطرف ، مع أَنَّه ليس لديه من الإِسلام إِلَّا استقبال الكعبة قَطُّ. وهذا ما صرَّحت به بيانات الوحي ، منها : بيان الإِمام الصَّادق صلوات اللّٰـه عليه : «... لا واللّٰـه ، ما هم على شيءٍ مِـمَّا جاء به رسول اللّٰـه صلى الله عليه واله إِلَّا استقبال الكعبة فقط»(1). وعليه : فكيف يمكن رسم خارطة وثقافة للمعارف والعقائد الحقَّة المُصْحَرَة في بيانات الوحي الإِلٰهي على وفق هذه الوضعيَّة التجاذبيَّة الكلاميَّة؛ وإِلَّا فستحصل لا محالة لأَصحاب هذه الخرائط والثقافات مشاكل وأَزمات معرفيَّة وعقائديَّة لا حصر ولا منتهىٰ لها. بل سبَّبت وتُسبِّب هذه المنهجيَّة وهذه الثقافات طامَّات معرفيَّة وعقائديَّة أَشدُّ خطراً وضرراً وفتكاً بأَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم من خطر وضرر وفتك يزيد بن معاوية وجيشه (عليهم لعائن اللّٰـه) وما فعلوه بسيِّد الشهداء صلوات اللّٰـه عليه وبأَهل بيته وصحبه ؛ لأَنَّ تلك قتلت الأَبدان ، وحرمت أَصحابها الحياة الدُّنيويَّة الزائلة، بخلاف هذه ؛ فإِنَّها تقتل : أَرواح أَهل البيت صلوات اللّٰـه عليهم ؛ وعلومهم وعقائدهم ومعارفهم ، وتحرم أَتباعهم ، بل جملة البشريَّة ، بل طُرّ المخلوقات الحياة الأُخرويَّة الأَبديَّة ، ومن ثَمَّ لا قياس بين الخطرين والضَّررين والفتكين. وكانت هذه القضيَّة هي السبب في إِعراض أَو غفلة مُتكلِّمي الإِماميَّة ، وأَصحاب العقائد والمعارف عن كثير من أَبواب وأَبحاث العقائد والمعارف الثابتة في بيانات الوحي الوافرة الباهرة. وعلى هذا قس : علم الفلسفة ؛ فإِنَّ تبويبه وفهرسته ورسم خارطته جرت على وفق نتاج بشري ، بل اعترف أَصحابها(2) بذلك ؛ فقالوا : إِنَّ الفلسفة تعني : معرفة حقائق الأَشياء بقدر الطَّاقة البشريَّة. وبين المعرفة على قدر الطاقة البشريَّة ؛ والَّتي مهما علت لا بُدَّ أَنْ تكون محدودة ومتناهية ، وبين المعرفة على وفق طاقة الوحي غيرالمتناهية وغيرالمحدودة فارق من دون قياس ؛ فإِنَّ الثابت في محلِّه أَنَّه لا توجد نسبة رياضيَّة بين المحدود وغيرالمحدودة ، فإِنَّه مهما علت ووضعت للمحدود من قيمٍ وأَرقامٍ إِذا قيس لغيرالمحدود لا بُدَّ أَنْ تكون قيمة المحدود صفراً على جهة الشمال ؛ وإِلَّا ـ أَي : إِذا جُعِلَ للمحدود قيمة وإِنْ كانت ضئيلة جدّاً كالواحد مقابل الترليون ـ لانقلبت ماهيَّة غيرالمتناهي وغيرالمحدود وصارت متناهية ومحدودة ، وبطلان إِنقلاب الماهيَّة ، بل واستحالتها من الواضحات ، بل خلف الفرض أَيضاً. ومِنْ ثَمَّ التبويبات الجارية في علم الفلسفة ـ سوآء أَكانت فلسفة : مشآء أَو إِشراق أَو حكمة متعالية أَو فلسفات غربيَّة حديثة أَو فلسفات أَلسنيَّة أَو فلسفات الهرمونطيقيا (الهرمونتيكيا) التعددية أَو فلسفات الكلام الجديد ـ وحبس المباحث المعرفيَّة والعقائديَّة ؛ وحشر مواد الوحي في هذه التبويبات البشرية كارثة علميَّة. وليس في هذا التعبير رجزٌ حماسيٌّ ، بل بكُلِّ هدوء وبكُلِّ قناعة أَنَّه : كارثة علميَّة ومعرفيَّة وعقائديَّة. وهذه القضيَّة لا بُدَّ من التَّنبُّه إِليها دائماً ؛ فإِنَّ أَصل الفهرسة في علم : (الفقه) و(الأُصول) و(الكلام) و(الفلسفة) و(التفسير) و(العرفان) وغيرها، بل وفي أَيِّ أَيدلوجيَّة حديثة أَو قديمة نتاج بشريّ محدود ، وتبويباتها لا تشمل عَالَم الحقيقة غيرالمتناهية ، ولا تتَّسع لِـمَا هو موجود في تراث الوحي أَبداً ، بل قوالب وبنود أَبواب معارف وعقائد النتاج البشري في علم : (الكلام) و(الفلسفة) و(العرفان) و(التفسير) تختلف عن قوالب وبنود بيانات الوحي ، ومن ثَمَّ يُحاول الكثير من الباحثين في المعارف والعقائد لَيِّ أَعناق العبائر والقوالب الوحيانيَّة ذات السعة والقوَّة والمتانة والرَّصانة غيرالمتناهيَّة ؛ ليستبدلها أَو يحشرها في قوالب النتاج البشري ؛ الهزيلة والهشَّة والضَّيِّقة. وبالجملة : أَنَّ الأُطر والقوالب الَّتي ينبغي أَنْ يُسبح بها في عَالَم المعاني غيرالمتناهية ، واستكشاف الحقائق العيانيَّة غيرالمحدودة : أُطر وقوالب وحيانيَّة، وهي تختلف عن أُطر البشر ؛ فإِنَّ قوالب المعاني الوحيانيَّة أُطر تكوينيَّة غير متناهية ، تُباين قدرة أُطر وقوالب المعاني البشريَّة وسعتها ودقَّتها ، فإِنَّها إِعتباريَّة متناهية. وهذه قضيَّة بالغة الأَهميَّة والثمرة والخطورة. فالتفت تربت يداك. وإِلى هذا تشير بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان قوله جلَّ وتقدَّس : [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ](3) . 2ـ بيان قوله تقدَّس ذكره : [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ](4). ودلالتهما واضحة. والإِضطرار يجرُّنا للتوسُّع في هذه القضيَّة ؛ لنبيِّن كيفيَّة بُعد الثقافة الإِسلاميَّة المُنتشرة بين المؤمنين فضلاً عن المسلمين عن حقيقة معارف وعقائد وثقافة الوحي الأَصيلة والوسيعة والشفَّافة. بل أَحياناً يكون النتاج المعرفي والعقائدي البشري حجاباً ومانعاً عن الوصول إِلى سعة الحقيقة. نعم الشبهات والإِثارات على النتاج البشري تُنبِّه الإِنسان إلى أَنَّ النتاج الوحياني شيء آخر غير النتاج البشري. ومن كُلِّ هذا يتَّضح : أَنَّ الإِعتماد على تعاريف النُّبوَّة والإِمامة الإِلٰهيَّة المسطورة في كُتُب المُتكلِّمين أَو الفلاسفة أَو العرفاء وغيرهم من أَصحاب كُتُب معارف وعقائد المدارس البشريَّة ؛ والتعامل معها على أَنَّها الحقّ ونهج الصدق طامَّة كُبرىٰ ، وخَضَد لشْوكَة الإِسلام والمسلمين. وعليه : يجب تصحيح كثير من التعاريف المُعتَمَدة في كُتُب معارف البشر ، وربطها ببيانات الوحي المعرفيَّة. وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بحار الأَنوار ، 65 : 91/ح26. المحاسن : 156. (2) مرجع الضمير : (الفلسفة). (3) لقمان : 27. (4) النحل : 96.