/ الفَائِدَةُ : (165) /
17/08/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / أَنواع الإِحاطة / يَجْدُرُ الْاِلْتِفَات : أَنَّ الإِحاطة على أَنحاء ثلاثة : أَحدها : الإِحاطة الْمَادِّيَّة الجغرافيَّة . وهذه لا تُحيط إِلَّا بالسَّطح والظَّاهر فقط . ومجالها : إِذا كان المُحيط من عَالَم الأَجسام الغليظة . مثالها : إِحاطة الكرة الكبيرة بالكرة الصغيرة . وهذا النحو وإِن عُدَّ نحو من أَنحاء الإِحاطة في عِلْمِ : الرياضيِّات والهندسة ، لكنَّه بالدِّقَّة العقليَّة فيه مسامحة ظاهرة . ومنه يتَّضح : أَنَّ الدِّقَّة الْعَقْلِيَّة تفوق الدِّقَّة في عِلْمِ : الرياضيَّات والهندسة ؛ لإِعتمادهما على قوَّة الخيال(1)، بخلاف الدِّقَّة الْعَقْلِيَّة ؛ فإِنَّها أَشرس من دون قياس ؛ لإِعتمادها على قوَّة الْعَقْل . والفارق بين القوَّتين عظيم وشاسع جِدّاً ، بل من دون قياس أَيضاً ؛ فإِنَّ الْعَقْل عين مُسَلَّحَة أَشرس من عين قوَّة الخيال بمراتب غير متناهية . وهذه نُكْتَةٌ نفيسةٌ تأتي في أَبْوَاب الْمَعَارِف الْإِلَهِيَّة . ثانيها : الإِحاطة الماديَّة غير الجغرافيَّة . وهذه تُحيط بالظَّاهر والباطن ، لكنَّها تبقىٰ ماديَّة وجسمانيَّة ولها مقدار . ومجالها : إِذا كان المُحيط من عَالَم المادَّة وعَالَم الأَجسام اللَّطِيفَة . مثالها : إِحاطة الأَشعَّة البنفسجيَّة أَو الحمراء أَو فوقها أَو تحتها بالأَجسام الأَغلظ . لكن : هناك نواقص في هذه الإِحاطة ، فضلاً عن الإِحاطة الماديَّة الجغرافيَّة ؛ منها : أَوَّلاً : أَنَّ الاحاطة الماديَّة غير الجغرافيَّة ـ فضلاً عن الجغرافيَّة ـ مهما علت وبلغت لا بُدَّ أَنْ تكون ناقصة ، فإِحاطة الأَشعَّة والطَّاقات بالأَجسام الأَغلظ وإِنْ كانت أَكمل نسبيّاً من إِحاطة الجسم الكبير بالصَّغير ، لكنَّها تبقىٰ ناقصة ؛ لأَنَّ عناصر وذرَّات الأَشعة والطَّاقات وإِنْ نفذت في الأَجسام والمواد الأَغلظ ، لكن نفس الأَجسام والمواد الأَغلظ تتكوَّن من لطائف ماديَّة ، وما إِنْ تتساوىٰ درجات اللَّطافة في مواد الأَشعَّة والطَّاقات مع درجات اللَّطافة في المواد الصَّاعدة للأَجسام فلا تنفذ ولا تُحيط تلك الأَشعَّة والطَّاقات بتلك الدَّرجة من الأَجسام ، وتمرُّ على سطوح تلك المواد فيصير لقاء سطح بسطح . إِذَنْ : الدُّخول والنُّفوذ المادِّي الجغرافي ، بل والدُّخول والنُّفوذ المادِّي غير الجغرافي من أَضعف أَنواع الدُّخول والنُّفوذ ؛ لعدم حصول تشابك حقيقي ، بل تلوُّن سطوح . ثانياً : أَنَّ بعض الُمحيط وإِنْ كان حاضراً في جانب من جوانب الُمحاط ، لكنَّه ليس بحاضر في الجوانب الأُخرىٰ ؛ فإِحاطة الأَشعَّة وسائر القوىٰ الماديَّة والطَّاقات بالجسم الأَغلظ وإِنْ كانت نافذة وحاضرة في أَحد جوانبه لكنَّها لا تكون نافذة وحاضرة في جوانبه الأُخرىٰ ؛ لأَنَّ هذه القوىٰ والطَّاقات بعدما كانت من عَالَم الأَجسام والمادة ، وطبيعة هذا العَالَم أَنَّ بعض جوانبه تغيب عن جوانبه الأُخرىٰ . وهذا بخلاف نفوذ وحضور واحاطة المجرَّدات التَّامَّة كنفوذ وحضور واحاطة الباري ـ الُمسمَّىٰ ـ تقدَّس ذكره ونفوذ وحضور واحاطة الأَسماء والصِّفات الإِلٰهيَّة ومرادفاتها العقليَّة الإِلٰهيَّة ـ طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ـ فإِنَّ جملة ابعاض المُحاط وأَجزاءه وذرَّاته وشراشره وشؤونه وأَحواله حاضرة لدىٰ المُحيط كنقطة واحدة ولا يغيب عنه شيء. ثالثها : الإِحاطة التجرُّديَّة ، وهذه إِحاطة وجوديَّة ، تكون فيها للمُحيط هيمنة وإِحاطة وقدرة أَعظم وجوداً وكمالاً من هيمنة وإِحاطة وقدرة ووجود وكمال المُحاط . ومجالها : إِذا لم يكن المُحيط من عَالَم المادَّة والأَجسام ، وإِنَّما كان من عَالَم المُجرَّدات تجرُّداً تامّاً ـ كـ : الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة ، وعَالَم الأَسماء والصِّفات الإِلٰهيَّة ؛ طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ـ ، فتكون نِسْبَة المُحيط إِلى جملة المُحاط ظاهره وباطنه نِسْبَة واحدة . نظيره : نقطة مركز الدائرة بلحاظ جميع نقاط محورها(2) ، فإِنَّ نسبتها إِلى الجميع واحدة ؛ من دون أَيّ تبعُّض وتفاوت(3). مثالها : ما أَشارت إِليه بيانات الوحي ، منها : أَوَّلاً : بيان قوله جلَّ ثناؤه : [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] (4). أَي : أَنَّ قربه وقدرته وسيطرته وهيمنته على جملة المخلوقات واحدة ، لا تتبعَّض ولا تتفاوت ، فهو سبحانه وتعالىٰ : [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ] (5) . نظيره : نقطة مركز الدائرة بلحاظ جميع نقاط محورها(6) ، فإِنَّ نسبتها إِلى الجميع واحدة ؛ من دون أَيّ تبعُّض وتفاوت . مثالها : ما أَشارت إِليه بيانات الوحي ، منها : أَوَّلاً : بيان قوله جلَّ ثناؤه : [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] (7). أَي : أَنَّ قربه وقدرته وسيطرته وهيمنته على جملة المخلوقات واحدة ، لا تتبعَّض ولا تتفاوت ، فهو سبحانه وتعالىٰ : [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ] (8) . إِذنْ : نِسْبَة المخلوقات بالنِّسْبَة إِليه (جلَّ ذكره) تتوحَّد ، فلا يغيب شيء عنه ؛ فجملة العوالم وكافَّة المخلوقات غير المتناهية في حضور واحدٍ لديه . وهذا ما تشير إِليه بيانات الوحي الأُخرىٰ ، منها : 1ـ بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؛ فإِنَّه سُئل : « عن قوله اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ : [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]، فقال: استوىٰ من كُلِّ شيء، فليس شيء أَقرب منه من شيء »(9). 2ـ بيان الإِمام الكاظم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، قال : « ذُكر عنده قوم زعموا أَنَّ اللَّـه تبارك وتعالىٰ ينزل إِلى السَّماء الدُّنيا ، فقال : إِنَّ اللَّـه لا ينزل ولا يحتاج إِلى أَنْ ينزل، إِنَّما منظره في القرب والبُعد سوآء، لم يبعد منه قريب، ولم يقرب منه بعيد، ولم يحتج إلى شيءٍ، بل يُحتاج إِليه...»(10). 3ـ بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، عن القاسم بن يحيىٰ ، عن جدِّه الحسن ، قال : « وسُئِلَ عن معنىٰ قول اللَّـه : [عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]، قال: استولىٰ على ما دقَّ وجلَّ »(11). ثانياً : بيان قوله جلَّ قوله : [أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ] (12). ومعناه : أَنَّه (تقدَّس ذكره) لا يحدّه ولا يحبسه مكان ولا زمان . ثالثاً : بيان قوله عزَّ من قائل : [وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا] (13). ودلالته قد اِتَّضحت . وبالجملة : النِّسْبَة بين الشيء الواحد والأَشياء الكثيرة إِنْ كانت واحدة ولم تختلف فالإِحاطة منه لها تجرُّديَّة ، وإِلَّا فماديَّة . إِذنْ : في عَالَم المُجرَّدات تجرُّداً تامّاً ـ كـ : طبقات حقائق أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة ـ لا توجد أَبداً نِسب مُتكثِّرة ، وإِنَّما نِسبة فاردة . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) عَالَم الخيال : عَالَم أَلطف من عَالَم الحسّ اللَّطيف ، وهو على مراتب وأَقسام وأَنواع ؛ كعَالَم الحسّ . (2) مرجع الضمير : (الدائرة). (3) لَا بَأْسَ بالْاِلْتِفَات في المقام إِلى الأَمرين التَّاليين : الأَمر الأَوَّل : /الدَّائرة والكرة من اقدس الأَشكال المخلوقة/ اعتبر علماء الرياضيَّات والهندسة منذ القِدَم : أَنَّ الدائرة أَو الكرة من أَقدس الأَشكال المخلوقة ، وتُؤخذ کمثال حسِّي وتقريبي لبيان أَوَّليَّة الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة الُمقدَّسة وأَنَّها عين آخريَّتها ، وليست للذَّات الإِلٰهيَّة المقدَّسة حالة تصرُّم ولا حالة ترقُّب لأُمور أُخرىٰ ، فهي كالنقطة المركزيَّة في الدَّائرة ؛ فإِنَّها إِذا قيست إِلى نقاط محورها كانت أَوَّليَّة هذه النقاط بالنِّسبة إِلى مركز الدَّائرة عين آخریَّتها ، وليست هناك حالة تصرُّم في الأَوَّليَّة ، ولا حالة ترقُّب في الآخريَّة ، وهي تُحيط بالكُلِّ ؛ فنسبة نقطة مركز الدَّائرة إِلى بدايات نقاط محورها عين نسبتها إِلى مُتوسِّطات نقاط محورها ، وعين نسبتها إِلى نهايات نقاط محورها . الأَمر الثَّاني : /الدَّائرة والكرة رمزان رياضيَّان معرفيَّان يوضِّحان علاقة اللَّطيف بالأَغلظ/ الدَّائرة والكرة رمزان رياضیَّان معرفیَّان عظيمان لتقريب علوم ومباحث المعارف الإِلٰهيَّة إِلى الأَذهان والعقول ، ولشرح وبيان جملة أُمور ، منها : علاقة ونسبة الجسم اللَّطيف إِلى كافَّة بقاع الجسم الأَغلظ واجزاءه وشراشره ؛ فإِنَّها واحدة ، كنقطة مركز الدَّائرة أَو الكرة بلحاظ الجسم المُتحرِّك في مُحيطها ، فإِنَّ نقاط المحيط إِذا قيست إِلى الجسم الُمتحرِّك فيها كانت متفاوتة في البعد والقرب ، لكنَّها إِذا قيست إِلى مركز دائرتها أَو مركز كرتها كانت في البُعد والقرب سوآء ، فأَوَّليَّتها عين آخريَّتها ، وآخريَّتها عين أَوَّليَّتها . وهذا المثال وإِنْ كان جسمانيّاً وحسيّاً وماديّاً ، ويُقرِّب من جهة ويُبعِّد من جهات ، لكنَّه بديع ، ويوضِّح علاقة اللطيف بالأَغلظ ونسبته إِليه ، والمخلوقات وإِنْ كان ماضيها غير حاضرها ومستقبلها ، وحاضرها غير ماضيها ومستقبلها ، ومستقبلها غير ماضيها وحاضرها ، لكنَّها إِذا قیست إِلى باريها (تقدَّس ذكره) كانت نسبتها إِليه تعالىٰ واحدة من دون أَي تفاوت ، فأَوَّليَّته تعالىٰ عين آخريَّته ، وآخريَّته عين أَوَّليَّته ، وأَزلیَّته عین سرمديَّته ، ولا يتجدَّد فيه شيء ، ولا يتصرَّم ولا يتبدَّد منه شيء ، وهو في كُلِّ شيءٍ . وتصوُّر هذه المعادلات يستعصي على أَذهان عقول رواد العلوم البشريَّة ـ كروَّاد : الفيزياء ، والكيمياء ، والاحياء ، والرياضيَّات ، والهندسة ، والفضاء ـ ؛ لكونهم مُتخلِّفين في المعرفة العقليَّة ـ إِلَّا الموحدون منهم ـ فالعين العقليَّة ليست بمُتطوِّرة ولا نامية لديهم ، كحال الحيوانات ؛ فإِنَّ جانب الحسِّ وإِنْ كان قويّاً لديها ، لكن جانب العقل ضعيف عندها . وعليه : فلا تُبْنَىٰ الحضارة والتنمية البشريَّة اعتماداً على الجانب الحيواني والحسِّ فقط ، بل وعلى الجانب العقلي ، وهو الأَخطر والأَعظم والأَهم . (4) طٰه : 5 . (5) الإخلاص : 3 . (6) مرجع الضمير : (الدائرة). (7) طٰه : 5 . (8) الإخلاص : 3 . (9) بحار الأَنوار ، 55: 7/ح5. (10) المصدر نفسه ، 3: 311/ح5. (11) المصدر نفسه : 336/ح45. أُصول الكافي، 1/باب: معاني الأَسماء واشتقاقها: 80/ح3. (12) فُصِّلَت : 54. (13) النساء : 126