معارف إِلٰهيَّة : (149) ، التَّوسُّل والوسيلة الإِلهيَّة فرض وضرورة إِلهيَّة
13/06/2024
الدرس (149) / بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلَّىٰ الله على مُحَمَّد وآله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين ، لازال البحث ( بحمد الله تعالى) في المطلب السابق ، وكان تحت عنوان : ( التَّوسُّل والوسيلة الإِلهيَّة فرض وضرورة إِلهيَّة) ، ووصل بنا الكلام الى العنوان التالي : / رأي بعض المدارس البشريَّة في التَّوسُّل / هذا وقد نقل صاحب تفسير الميزان قاعدة معرفيَّة ، ذكرها أَهل المعنىٰ والمعرفة ، وهي : «أَنَّه لا بُدَّ للنَّفس النَّازلة لتحصيل معرفة الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة من التَّوسُّل بالوسائط والآيات الإِلٰهيَّة ، وهي على نمطين : فتارة تُلحظ الوسائط ـ كنزول جبرئيل عليه السلام ـ ، وأُخرىٰ لا تُلحظ». ويحصل في النَّمط الثَّاني : تجلِّي الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة للمخلوق مِنْ خلال الآيات الإِلٰهيَّة بدرجةٍ أَظهر وأَجلىٰ. لكنَّ : حصلت له غفلة ، بل غفلات عن هذه القاعدة في موارد مُتعدِّدة مِنْ تفسيره ، تبعاً لجملة مِنَ الفلاسفة والعرفاء والصُّوفيَّة وأَهل المعرفة مِنَ الإِماميَّة ؛ حيث قالوا : إِنَّ لكلِّ مخلوقٍ بلحاظ إِرتباطه بالسَّاحة الإِلٰهيَّة المُقَدَّسة وجهتين : إِحداهما : وجهة تسلسل الوسائط والأَسباب. وأَطلقوا عليها : «الجهة الَّتي تلي الخلق». الأُخرىٰ : وجهة مِنْ دون وسائط وأَسباب. وأَطلقوا عليها : «الجهة الَّتي تلي الرَّبّ». وفُسِّرَ بيان قوله تقدَّس ذكره : [ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ](1)بالوجهة الأُولىٰ. وبيان قوله جلَّ قدسه : [ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ] (2)بالوجهة الثانية. وغير خفيٍّ لِـمَن أَلهمه اللّٰـه الرشد ، ولاحظ ما تقدَّم من بيانات الوحي الباهرة الزاهرة ، درر الرَّحمة ، وقطرة من بحر الحكمة ، البراهين السَّاطعة الواضحة ، والحُجَج البالغة ، وصغىٰ لها سمعه ، وذلَّل لها فهمه ، وأَشغل لها قلبه : أَنَّ ما ذُكر في النمط الثَّاني ـ المُدعَّىٰ لنفي الوسائط ـ طنطنة قصَّاصين ، وفخفخة قولٍ مِمَّن داخله الشَّكّ ، واستولىٰ عليه الرَّيب ، بل سقيفة معرفيَّة ؛ أَضرُّ على : الإيمان وأَهله ، والتَّوحيد ، والمعارف الحقَّة ، وأَهل البيت عليهم السلام مِن يزيد بن معاوية وجيشه (عليهم اللعنة) ؛ لاستلزامه محاذير عقائديَّة ومعرفيَّة خطيرة جِدّاً ، منها : 1ـ معرفة ـ والعياذ باللّٰـه تعالىٰ ـ الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة بالكُنْه. 2ـ إِحاطة المخلوق بالذَّات الإِلٰهيَّة. 3ـ صيرورة المخلوق المُحيط أَعظم من خالقه (تبارك وتعالىٰ). 4ـ تصغير الشَّأن الإِلٰهي. 5ـ تشبيه الباري (جلَّ وتقدَّس) بمخلوقاته. 6ـ الغلوّ في حقِّ المخلوق المُحيط. 7ـ التَّقصير في المعرفة الإِلٰهيَّة. 8ـ الشرك الخفي(3). وغيرها من بقيَّة المحاذير ، والمعارف والعقائد الفاسدة الباطلة بضرورة الوحي والعقل ، المشمول من يرتطم بها بإِطلاق بيان قوله تعالىٰ :[ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ](4). والتَّحقيق(5): أَنَّ هذا التَّقسيم الثنائي(6) بنفسه حقٌّ ونظامٌ وحيانيٌّ ، لكنَّه لا بذلك التَّفسير ؛ فإِنَّ الوسائط والوسائل والأَسباب الإِلٰهيَّة يحتاج إِليها المخلوق بالضَّرورة في الوجهة الثانية أَيضاً ، لكنَّها لا تُلحظ ؛ لكونها محواً وفانيةً في حكاية الشأن الإِلٰهيّ ، وهو(7) على درجات. وإِلى هذا أَشارت بيانات الوحي ، منها : بيان أَمير المؤمنين عليه السلام في حديث الحقيقة ، في جواب سؤال كميل بن زياد : «يا أَمير المؤمنين ، ما الحقيقة؟ فقال : ... الحقيقة كشف سبحات الجلال مِنْ غير إِشارةٍ ، قال : زدني بياناً ، قال : محو الموهوم ، وصحو المعلوم ، فقال : زدني بياناً ، قال : هتك الستر لغلبة السرّ ، فقال: زدني بياناً ، قال : نور يشرق مِنْ صبح الأَزل ؛ فيلوح على هياكل التَّوحيد آثاره ، فقال : زدني بياناً ، فقال : إِطفئ السِّراج فقد طلع الصبح»(8). فقوله صلوات اللّٰـه عليه : «الحقيقة : كشف سبحات الجلال من غير إِشارةٍ» ، وقوله عليه السلام : «محو الموهوم» ، وقوله عليه السلام : «نور يشرق مِن صبح الأَزل ؛ فيلوح على هياكل التَّوحيد آثاره» إِشارة إِلى ما قدَّمناه من تفسير للنَّحو الثاني ، وهو : (محو الوسائط والأَسباب) ؛ وإِنَّه محوٌ وفناءٌ في الحكاية ؛ لا حقيقة. وبالجملة : تحصيل المعرفة وسائر الفيوضات الإِلٰهيَّة في (قوس النَّزول)، بل وقبول الأَعمال وغيرها في (قوس الصُّعود) لا تكون إِلَّا بتوسُّط : الآيات والوسائط والوسائل والأَسباب الإِلٰهيَّة ، لكنَّها : تارة تُلحظ ، وأُخرىٰ لا تُلحظ ، ويُعبَّر عن الثانية بـ : «محو الوسائط والأَسباب»(9). ... وتتمَّة البحث تاتي (إِنْ شآء الله تعالىٰ) ، وصلَّىٰ الله على مُحَمَّد وآله الأَطهار . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) البقرة : 115. (2) البقرة : 148. (3) ينبغي الإِلتفات : أَنَّ هذه المحاذير لا تُخرج المرتطم بها عن دائرة الإِيمان والملَّة والدِّين ما دامت خفيَّة ، نعم تُخرجه عن المراتب العالية ، كمرتبة : (المخلصين). وهذا ما أَشار إِليه بيان قوله تعالىٰ التَّالي الذكر. (4) يوسف : 106. (5) هذا مبحث حسَّاس جِدّاً ، يدخل في عموم أَبواب المعرفة ، ومِنْ ثَمَّ التَّأنِّي والتَّدبُّر فيه مُفيد ونافع ومثمر جِدّاً ؛ يدفع كثير من الإِشكالات والشُّبهات ؛ منها : (شُبهة الوحدة الشَّخصيَّة) ، المرتطم بها كثير من العرفاء والصُّوفيَّة. (6) هذا التَّقسيم وإِنْ كان ظاهره ثنائي ، لكنَّ واقعه : انطواء كُلّ قسمٍ على أَنواع ومراتب ، منها : (الوجهة في الأَسباب) ، و(الوجهة في طيِّ الأَسباب). وقد خلط العرفاء والصُّوفيَّة وجعلوا : (وجهة طيّ الأَسباب) من الوجهة الَّتي تلي الرَّبّ ، والمناسب: أَنَّها من وجهة تسلسل الوسائط والأَسباب. (7) مرجع الضمير : (المحو والفناء في الحكاية). (8) بحار الأَنوار ، 40 : 87 . عيون أَخبار الرضا عليه السلام ، 1 : 233/ح1. تحف العقول : 430. عوالي اللآلي : 205/ح4. (9) هذا التَّقسيم عبارة أُخرىٰ عن الموضوعيَّة والطريقيَّة ـ أَي : الآليَّة ـ ، وهما على أَنماطٍ وضروبٍ مُتعدِّدة