معارف إِلٰهيَّة : (150) ، التَّوسُّل والوسيلة الإِلهيَّة فرض وضرورة إِلهيَّة
14/06/2024
الدرس (150) / بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلَّىٰ الله على مُحَمَّد وآله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين ، لازال البحث ( بحمد الله تعالى) في المطلب السابق ، وكان تحت عنوان : ( التَّوسُّل والوسيلة الإِلهيَّة فرض وضرورة إِلهيَّة) ، ووصل بنا الكلام الى خلاصة ما تقدم : وبالجملة : تحصيل المعرفة وسائر الفيوضات الإِلٰهيَّة في (قوس النَّزول)، بل وقبول الأَعمال والدعاء وسائر العبادات ؛ وقبول التوبة وغفران الذنوب وما شاكلها في (قوس الصُّعود) لا تكون إِلَّا بتوسُّط : الآيات والوسائط والوسائل والأَسباب الإِلٰهيَّة ، لكنَّها : تارة تُلحظ ، وأُخرىٰ لا تُلحظ ، ويُعبَّر عن الثانية بـ : «محو الوسائط والأَسباب»(1). نظيره : النَّظر إِلى المرآة ؛ فإِنَّه : تارة تُلحظ ويُلحظ المنعكس فيها ، وأُخرىٰ ـ أَي : حينما يشتدُّ صفاء المرآة وانعكاسها وتشتدُّ حكايتها ـ لا يُلحظ إِلَّا المنعكس فيها ، ولا ينشدُّ إِلَّا إِليه. والنَّحو الأَوَّل مشوب بحجاب الواسطة ؛ فبعد ما لم يحصل لها محو لم يَصحُ الرَّائي إِلى المرئي بيقظةٍ كاملةٍ . بخلاف النَّحو الثَّاني . وإِلى هذا النحو(2) أَشار بيان قوله (تعالىٰ ذكره) ، الحاكي لخبر بلقيس مع النَّبيّ سليمان عليه السلام : [قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (3). فإِنَّه مع وجود الواسطة واقعاً ـ وهي : (الصَّرح) ـ لكنَّه لتمرُّد ذاته ، وشفافيَّته وخلوصه في حكاية ذيه لم يُرِ نفسه ؛ ولم يكن حجاباً مانعاً ، ومن ثَمَّ لم تلحظه بلقيس ؛ ولم تلتفت أَو تنتبه إِليه أَو تشعر به ، وحسبته المحكي ؛ وهو : اللُّجَّة ؛ أَي : الماء الغزير ، ومِنْ ثَمَّ كشفت عن ساقيها لتتخطَّاه ، ولَـمَّا أُخبرت بالواقع ـ وأَنَّه صَرْحٌ مُـمَرَّدٌ ؛ اي : تـمَرَّدت ذاته في حكاية ذيه ـ آمنت مِنْ دون نظر وتروِّي ومهلة وتدبُّر ؛ لكونها التقطت إِشارة معرفيَّة توحيديَّة إِلى معنىٰ : (تجلِّي وظهور الذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة) في المخلوقات المُكرَّمة ؛ طبقات(4) حقائق أَهل البيت عليهم السلام الصَّاعدة. وهذه القضيَّة الَّتي أنجبتها أَلفاظ بيانات الوحي ، وولَّدتها طاهر كلماته، وأَظهرتها كالشَّمس الضَّاحية بياناته الواضحة الَّتي لا نهاية لعددها ولا نفاد لمددها ؛ فبزغت ماثلة لكلِّ عينٍ ، مالئة لكلِّ سمعٍ كبراها(5) عقليَّة وبديهيَّة قبل أَنْ تكون وحيانيَّة. نعم صغراها (6) وتشخيص مصاديقها (الطبقات الصَّاعدة لحقائق أَهل البيت : سيِّد الأَنبياء مُحمَّد صلى الله عليه واله والعترة الأَطهار عليهم السلام) قضيَّة وحيانيَّة ، لا دخل للعقل بها ؛ لكونها مِن عوالم خارجة عن مِكنته وحريمه وَحَدِّه ، ومِنْ ثَمَّ مهما بَعُدَ في الغوص والغور لا ينال حقيقتها. فتأَمَّل جيِّداً. / مِمَّا تقدَّم يتَّضح الجمّ الغفير من طوائف بيانات الوحي الأُخرى / ومِنْ كلِّ هذا : تتجلَّىٰ الغشاوة عن أَبصار مُتأمِّلي كثير من بيانات الوحي(7) ودلائله النيِّرة وبراهينه الباهرة ، وينقشع العمىٰ عن عيون متدبِّريها ، ليمتد بصرهم إِلى أَعنان عوالم لم يصل إِليها فكر وخيال ملك مُقرَّب ولا نبيٍّ مرسل ولا مؤمن ممتحن ، ليزدادوا في هذا الأَمر : بصيرة وسروراً ، وإِيماناً مع إِيمانهم ، ويقيناً ورغبةً وتصديقاً بشرع السَّماء ، وكرامة وزلفىٰ وأثَرَة عند اللّٰـه. وهذه مِنَّة من اللّٰـه (جلَّ شأنه) يجب شكرها. وهلمَّ معي لنكشف نقاب بعض طوائفها ؛ المُترادفة عقلاً مع ما تقدَّمها وما يتلوها ؛ ليعضد بعضها الآخر لترتقي من درجات اليقين الحاصلة من نفس طائفتها إِلى درجات أَرقىٰ من اليقين والقطع العقلي والوحياني غيرالمتناهي(8) ، ونخرج بعض لبابها وشذرات من دررها. / طبقات حقائق أَهل البيت عليهم السلام الصَّاعدة انعكاسات لصفات الذَّات المُقدَّسة / / صفات أهل البيت عليهم السلام وشؤونهم تجلِّيات لصفات وشؤون الذَّات الإِلهيَّة / / الطَّائفة الأُولىٰ ، ويُمثِّلها : / أَوَّلاً : بيان أَمير المؤمنين (صلوات اللّٰـه عليه) في خطبةٍ في جامع البصرة : «معاشر المؤمنين والمسلمين : إِنَّ اللّٰـه (عزَّوجلَّ) أَثنىٰ على نفسه فقال: «هو الأَوَّل ... والآخِر ... والظَّاهر ... والباطن ... سلوني قبل أَنْ تفقدوني ، فأَنا الأَوَّل ، وَأَنا الآخر» ، إِلى آخِر كلامه ، فبكىٰ أَهل البصرة كلّهم، وصلّوا عليه»(9). ... وتتمَّة البحث تاتي (إِنْ شآء الله تعالىٰ) ، وصلَّىٰ الله على مُحَمَّد وآله الأَطهار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) هذا التَّقسيم عبارة أُخرىٰ عن الموضوعيَّة والطريقيَّة ـ أَي : الآليَّة ـ ، وهما على أَنماطٍ وضروبٍ مُتعدِّدة. (2) أَي : النحو الثَّاني. (3) النمل : 44. (4) هذه العبارة تعود : (للتَّجَلِّي والظُّهور) ؛ فإِنَّ الخالق (تقدَّس ذكره) يتجلَّىٰ ويظهر للمخلوقات في طبقات حقائق أَهل البيت عليهم السلام الصَّاعدة. (5) أَي : اِسْتِحَالَة وصول المخلوق للذَّات الإِلٰهيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة من دون واسطة ووسيلة إِلٰهيَّة. (6) أَي : إِنَّ طبقات حقائق أَهل البيت (صلوات اللّٰـه عليهم) الصَّاعدة وتتبعها طبقاتها المُتوسطة والنَّازلة هي الواسطة والوسيلة الإِلٰهيَّة الفاردة لطُرِّ العوالم وجملة المخلوقات. (7) ينبغي الإِلتفات : أَنَّه من خلال ما تقدَّم ستنحل شفرات كم هائل من بيانات الوحي عين اليقين وحقيقته ، وصراط الحقّ وعصمته ، المستعصي حلّها وفهمها وهضمها عبر القرون على مَنْ تعامل معها ، فاضطرَّه إِمَّا إِلى دفع حُجِّيَّتها أَو رفعها وإسقاطها سنداً أَو متناً ؛ بالتَّأويل وما شاكله ، أَو إِحالتها على أَهلها (صلوات اللّٰـه عليهم) على أَفضل الأَحوال ، لكنَّه سيتِّضح (إِنْ شاء اللّٰـه تعالىٰ) : أَنَّ تلك التَّأويلات وذلك الدَّفع أَو الرفع فخفخة قول مِمَّن داخله الشَّكّ واستولىٰ عليه الرَّيب ، بل تخطب على نفسها : أَنَّ هذا الصنيع ظاهر التكلُّف ، بَيِّن التوليد ، وجرأة على الشريعة القويمة ، وهتك لأَستار السُّنَّة الكريمة ، ولو مشينا مع ذلك الكم الهائل من بيانات الوحي كما تشاء الصناعة العلميَّة والقواعد الأُصوليَّة لوجدنا منها الكم الغفير مقطوع الصدور والدلالة بالقطع العقلي ، بل الوحياني من خلال التَّرادف العقلي وغيره ، ومن ثَمَّ لا يبقىٰ مجال لموقف الشَّكّ ، أَو ميداناً لمُشكِّكٍّ. (8) إِنَّ اليقين والقطع بعدما كانا على درجات ومراتب غير متناهية فتلك البيانات الوحيانيَّة المُتقدِّمة وما سيأتي (إِنْ شاء اللّٰـه تعالىٰ) وإِنْ كانت كُلُّ طائفةٍ تورث بنفسها اليقين والقطع العقلي ، بل والوحياني ، لكن : بضم بعضها إِلى الآخر ستحصل درجات ومراتب أَرقىٰ من اليقين والقطع العقلي والوحياني غيرالمتناهي. فالتفت ، واغتنم. (9) بحار الأَنوار ، 39 : 348/ح20. مناقب آل أَبي طالب ، 1 : 512 ـ 514